تمهيد لمختصر المزني

تقرأ هذه المقدمات قبل الشروع في شرح المختصر للمزني

  1ـ    شرح السنة للإمام لمزني، وهو كتاب بيَّن فيه المزني عقيدته، وبين فيه أنه يتفق فيها مع أهل الحديث.

ـ2ـ   الأسباب الباعثة على شرح المختصر للمزني باللغة الصومالية

3 ـ    منهج المزني في كتابه المختصر

4ـ الإضافات التي يزيدها المزني على كلام الشافعي في المختصر

5 ـ ترجمة الإمام المزني

بقلم الدكتور/ عمر إيمان أبو بكر

 

أولا: شرح السنة للإمام المزني([1])

بسم الله الرحمن الرحيم

 أخبرنا الفقيه الإمام شمس الدين أبو العز يوسف بن عمر بن أبي نصر الهكاري في شهر صفر سنة ست عشرة وستمائة قال حدثنا الشيخ الإمام الحافظ الثقة بقية السلف أبو إسحاق إبراهيم بن عثمان بن عيسى بن درباس الماراني من لفظه بالموصل في تاسع عشر من جمادى الأولى سنة إحدى عشرة وستمائة قال أخبرنا الشيخ الصالح العالم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن حمد بن مفرج بن غياث الأرْتاحي قراءتي عليه بفسطاط مصر قال أخبرنا الشيخ المسند العالم أبو الحسن علي بن الحسين بن عمر الموصلي الفراء فيما أذن فيه لي.

 ح قال الشيخ إبراهيم بن عثمان وأخبرنا الشيخ الإمام الفقيه الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم بن سَلِفَة الأصبهاني السِّلَفي في كتابه إلينا من الإسكندرية في ربيع الآخر سنة أربع وسبعين وخمسمائة، قال أخبرنا الشريف أبو محمد عبد الملك بن الحسن بن بِتِنَّةَ الأنصاري بمكة بقراءتي عليه في سنة تسع وتسعين وأربعمائة قالا أخبرنا أبو عبد الله الحسين ابن علي النَّسوى الفقيه قدم علينا مكة أخبرنى أبو محمد إسماعيل بن رجاء ابن سعيد العسقلاني بعسقلان أخبرني أبو الحسين محمد بن أحمد بن عبد الرحمن الملطي وأبو أحمد محمد بن محمد بن عبد الرحيم القيسراني قالا أخبرنا أحمد بن بكر اليازوري قال حدثني الحسن بن علي اليازوري الفقيه حدثني علي بن عبد الله الحلواني قال كنت بطرابلس المغرب فذكرت أنا وأصحاب لنا السنة إلى أن ذكرْنا أبا إبراهيم المزني رحمه الله، فقال بعض أصحابنا: بلغني أنه كان يتكلم في القرآن، ويقف عنده، وذكر آخرُ أنه يقوله إلى أن اجتمع معنا قوم آخرون، فغمَّ الناسَ ذلك غماً شديداً، فكتبنا إليه كتاباً نريد أن نستعلم منه يكتب إلينا شرح السنة في القدر، والإرجاء، والقرآن والبعث، والنشور، والموازين، وفي النظر فكتب إلينا

بسم الله الرحمن الرحيم([2]).

        عصمنا الله وإياكم بالتقوى، ووفقنا وإياكم لموافقة الهدى، أما بعد فإنك (أصلحك الله) سألتني أن أوضح لك من السنة أمراً تُصبِّرُ نفسَك على التمسك به، وتدرأ به عنك شُبهَ الأقاويل، وزيغ محدثات الضالين، وقد شرحت لك منهاجاً موضحاً، منيراً لم آلُ نفسي وإياك فيه نصحاً بدأت فيه بحمد الله ذي الرّشد والتسديد.

        الحمد لله أحقُّ مَن ذُكر، وأولى مَن شُكر، وعليه أثني، الواحدُ الصمدُ الذي ليس له صاحبة، ولا ولد جلَّ عن المثيل، فلا شبيهَ له، ولا عديل، السميعُ البصير، العليم الخبير، المنيع الرفيع.

  العلو 

  عالٍ على عرشه ([3]) وهو دانٍ بعلمه مِن خلقه، أحاط علمُه بالأمور، وأنفذ في خلقه سابقَ المقدور، وهو الجواد الغفور{يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور}.

  القضاء والقدر 

  فالخلق عاملون بسابق علمه، ونافذون لما خلقهم له من خير وشر، لا يملكون لأنفسهم من الطاعة نفعاً، ولا يجدون إلى صرف المعصية عنها دفعاً.

  الملائكة 

  خلق الخلق بمشيئته عن غير حاجة كانت به، فخلق الملائكة جميعاً لطاعته، وجبلهم على عبادته، فمنهم ملائكة بقدرته للعرش حاملون، وطائفة منهم حول عرشه يسبحون، وآخرون بحمده يقدسون، واصطفى منهم رسُلاً إلى رسله، وبعض مدبرون لأمره.

  آدم عليه السلام 

  ثم خلق آدم بيده، وأسكنه جنته، وقبل ذلك للأرض خلَقه، ونهاه عن شجرة قد نفذ قضاؤه عليه بأكلها، ثم ابتلاه بما نهاه عنه منها، ثم سلط عليه عدوَّه فأغواه عليها، وجعل أكله لها إلى الأرض سبباً، فما وجد إلى ترك أكلها سبيلاً، ولا عنه لها مذهباً.

  الجنة والنار 

  ثم خلق للجنة من ذريته أهلاً، فهم بأعمالها بمشيئته عاملون، وبقدرته وبإرادته ينفذون، وخلق من ذريته للنار أهلاً، فخلق لهم أعيناً لا يبصرون بها، وآذانا لا يسمعون بها، وقلوبا لا يفقهون بها، فهم بذلك عن الهدى محجوبون، وبأعمال أهل النار بسابق قدره يعملون.

  الإيمان 

  والإيمان قول وعمل (مع اعتقاده بالجنان: قول باللسان وعمل بالجوارح والأركان) وهما سيان، ونظامان، وقرينان لا نفرق بينهما، لا إيمان إلا بعمل، ولا عمل إلا بإيمان، والمؤمنون في الإيمان يتفاضلون، وبصالح الأعمال هم متزايدون، ولا يخرجون بالذنوب من الإيمان، ولا يكفرون بركوب كبيرة، ولا عصيان، ولا نوجب لمحسنهم الجنان بعد من أوجب له النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نشهد على مسيئهم بالنار.

  القرآن 

  والقرآن كلام الله ـ عز وجل ـ ومن لدنه، وليس بمخلوق، فيبيد.

.
الصفات 

  وكلمات الله وقدرة الله ونعته وصفاته كاملات غير مخلوقات، دائماتٌ أزليات، وليست بمحدثات فتبيد، ولا كان ربنا ناقصاً، فيزيد جلت صفاتُه عن شبه صفات المخلوقين، وقصرت عنه فطن الواصفين، قريبٌ بالإجابة عند السؤال بعيد بالتعزز لا ينال، عال على عرشه بائن من خلقه، موجود، و ليس بمعدوم ولا بمفقود.

الآجال 

  والخلق ميتون بآجالهم عند نفاد أرزاقهم وانقطاع آثارهم.

  القبر 

  ثم هم بعد الضغطة في القبور مساءلون

  النشور والحساب 

وبعد البِلى منشورون، ويوم القيامة إلى ربهم محشورون، ولدى العرض عليه محاسَبون بحضرة الموازين، ونشر صحف الدواوين أحصاه الله ونسوه {في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة}([4]) لو كان غيرُ الله عز وجل الحاكمَ بين خلقه لكنه الله يلي الحكم بينهم بعدله بمقدار القائلة في الدنيا، وهو أسرع الحاسبين كما بدأه لهم من شقاوة وسعادة، يومئذ يعودون ([5]): {فريق في الجنة، وفريق في السعيرْ}.

[الجنة ] وأهل الجنة يومئذ في الجنة يتنعمون، وبصنوف اللذات يتلذذون، وبأفضل الكرامات يُحبرون.

الرؤية 

         فهم حينئذ إلى ربهم ينظرون، لا يمارون في النظر إليه، ولا يشكون، فوجوههم بكرامته ناضرة، وأعينهم بفضله إليه ناظرة في نعيم دائم مقيم و{ لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين} (أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذي اتقوا وعقبى الكافرين النار).

 وأهل الجحد {عن ربهم يومئذ لمحجوبون} (وفي النار يسجرون)([6])     {لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون} و{لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور} الآية خلا من شاء الله من الموحدين إخراجهم منها.

  طاعة الأئمة والأمراء ومنع الخروج عليهم 

  والطاعة لأولي الأمر فيما كان عند الله عز وجل مرضياً، واجتناب ما كان عند الله مُسْخِطاً، وترك الخروج عند تعديهم وجورهم والتوبة إلى الله عز وجل كيما يعطف بهم على رعيتهم.

 الإمساك عن تكفير أهل القبلة 

  والإمساك عن تكفير أهل القبلة والبراءة منهم فيما أحدثوا ما لم يبتدعوا ضلالاً، فمن ابتدع منهم ضلالاً كان على أهل القبلة خارجاً، ومن الدين مارقاً، ويتقرب إلى الله عز وجل بالبراءة منه، ويهجر، ويحتقر، وتجتنب غُدَّتُه([7])، فهي أعدى من غدة الجرب

 الصحابة 

  ويقال بفضل خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فهو أفضل الخلق، وأخيرهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ونثني بعده بالفاروق، وهو عمر بن الخطاب رضي الله عنه فهما وزيرا رسول الله صلى الله عليه وسلم وضجيعاه في قبره وجليساه في الجنة، ونثلث بذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه، ثم بذي الفضل، والتقى علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، ثم الباقين من العشرة الذين أوجب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الجنة، ونخلص لكل رجل منهم من المحبة بقدر الذي أوجب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من التفضيل، ثم لسائر أصحابه من بعدهم رضي الله عنهم أجمعين.

ويقال بفضلهم، ويذكرون بمحاسن أفعالهم، ونمسك عن الخوض فيما شجر بينهم، فهم خيار أهل الأرض بعد نبيهم، ارتضاهم الله عز وجل لنبيه، وخلقهم أنصاراً لدينه، فهم أئمة الدين، وأعلام المسلمين، فرحمة الله عليهم أجمعين.

الصلاة وراء الأئمة والجهاد معهم والحج 

  ولا نترك حضورَ صلاة الجمعة، وصلاةٌ مع بر هذه الأمة وفاجرها لازمٌ ما كان من البدعة بريا، فإن ابتدع ضلالاً، فلا صلاة خلفه، والجهادُ مع كلِّ إمام عدل أو جائر والحجُّ.

  قصر الصلاة والاختيار بين الصيام والإفطار في الأسفار 

  وإقصار ( وقصر) الصلاة في الأسفار، والاختيار فيه بين الصيام والإفطار في الأسفار إن شاء صام، وإن شاء أفطر.

  اجتماع أئمة الهدى الماضين على هذه المقالات 

         هذه مقالات وأفعال اجتمع عليها الماضون الأولون من أئمة الهدى، وبتوفيق الله اعتصم بها التابعون قدوة ورِضًى، وجانبوا التكلف فيما كُفوا، فسُددوا بعون الله ووُفقوا لم يرغبوا عن الاتباع، فيقصروا، ولم يجاوزوه تزيُّداً فيعتدوا، فنحن بالله واثقون، وعليه متوكلون، وإليه في اتباع آثارهم راغبون.

        الحافظة على أداء الفرائض والرواتب واجتناب المحرمات

فهذا شرح السنة تحرَّيت كشفها، وأوضحتها، فمن وفقه الله للقيام بما أبنتُه مع معونته له بالقيام على أداء فرائضه بالاحتياط في النجاسات، وإسباغ الطهارة على الطاعات، وأداء الصلوات على الاستطاعات، وإيتاء الزكاة على أهل الجِدَاتِ، والحج على الجِدَةِ والاستطاعات، وصيام الشهر لأهل الصِّحَات، وخمسُ صلوات سنها رسو الله r: صلاة الوتر كل ليلة، وركعتا الفجر، وصلاة الفطر والنحر، وصلاة الكسوف الشمس والقمر([8])وصلاة الاستسقاء متى وجب.

واجتنابُ المحارم، والاحتراز عن النميمة، والكذب، والغيبة، والبغي بغير الحق، وأن يقال على الله ما لا يُعلم، كل هذه كبائر محرَّمات، والتحري في المكاسب والمطاعم، والمحارم، والمشارب، والملابس، واجتناب الشهوات، فإنها داعية  لركوب المحرَّمات، فمن رعَى حول الحمى، فإنه يوشك أن يقع في الحِمي.

خاتمة الرسالة

فمن يسَّر لهذا فإنه من الدين على هدى، ومن الرحمة على رجاء، وفقنا الله وإياك إلى سبيله الأقوم بمنه الجزيل الأقدم وجلاله العلي الأكرم.

 والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وعلى من قرأ علينا السلام، ولا ينال سلامُ الله الضالين. (والحمد لله رب العالمين) ( ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم).

        (نجزت الرسالة بحمد الله ومنه وصلواته على محمد وآله وأصحابه وأزواجه الطاهرات وسلم كثيراً كثيراً).

ثانيا:

 الأسباب التي دعتني إلى شرح المختصر للإمام المزني باللغة الصومالية كثيرة، ومنها على سبيل المثال:

1ـ إن الطلاب في الصومال يعكفون في الحلقات العلمية على المتون الفقهية للمتأخرين، فلا يعرفون غيرها، وفي تلك المتون من التباينات ما لا يدخل تحت حصر، ومع ذلك يدعي كلٌّ منهم أن الذي قرَّره هو المذهب، فيكاد  يضيع المذهب الأصلي بسبب تلك التباينات بين هذا الكم الهائل من المتون المختلفة، وقد اشتكى الإمام النووي الموصوف بأنه محقق المذهب، فكان مما قال في هذا الصدد: «واعلم أن كتب المذهب فيها اختلاف شديد بين الأصحاب بحيث لا يحصل للمطالع وثوقٌ بكون ما قاله مُصنِّفٌ منهم هو المذهب حتى يطالع معظم كتب المذهب المشهورة»([9]).

فإذا كان هذا موقف النووي من تباين الكتب المؤلفة في المذهب الشافعي، كيف لغيره من طلاب هذا العصر أن يهتدوا إلى معرفة الصحيح من المذهب من خلال تلك المتون المختلفة، ويصر كثيرٌ من طلبة العلم في هذا العصر على أنه يتعين  دراسةُ تلك المتون على حالها والاستمرار عليها ما فيها من توعير الطرق، وتصعيب المسالك، وقد بالغوا في اختصارها حتى تحوَّلت إلى ألغاز([10]) ولهذا يصرف الطلاب في فهمها، وتفهيمها من الجهد ما لو صرفوه في غيرها لتحصَّل على علوم كثيرة، ولم يعلموا أن المطلوب منهم هو الوصول إلى الحكم الشرعي من أسهل الطرق وأقربها إلى الفهم، والمبسوطات أجدر بذلك([11]).

ولا مخرج من تلك المعضلة في نظري إلا الرجوع إلى كتب المتقدمين الذين لهم معرفة ورسوخ في المذهب، وذلك أمر ميسور، فبين أيدينا كتب إمام المذهب مجموعةً مبوبةً باباً باباً، فإن اشتكى أحدُ الطلبة من طولها، فالبديل عنها كتب تلاميذ الإمام المختصرة بحيث تناسبهم في كل المستويات، فبذلك يسلمون من الاضطراب الحاصل بين متون المتأخرين.

2ـ من الأسباب الداعية إلى شرح مختصر المزني إضافة مرجع يُعتَبر أهم مرجع في المذهب الشافعي بعد كتاب الأم للإمام الشافعي إلى الحلقات العلمية في مساجدنا في الصومال، فمختصر المزني الذي نتحدث عنه هو الكتاب الذي تفرَّعت منه الكتب المؤلَّفة في المذهب، ولأهميته في المذهب وُضع عليه من الشروح ما يزيد على ثلاثين شرحاً ما بين مطول، ومتوسط، ومختصر، ومن أهم تلك الشروح كتاب الحاوي الكبير للماوردي ونهاية المطلب في دراية المذهب للإمام الجويني، وقد صَرَفَ طلبة العلم النظر عن كتب المتقدمين، واعتاضوا عنها بتلك المختصرات مع أن القصد من اختصارها أن تُحفظ لتكون تذكرةً لرؤوس المسائل المشروحة في المبسوطات لا أن تكون بديلاً عنها، فلم يفهم الطلاب في هذا العصر ذلك المقصد من تأليف تلك المختصرات، فاتخذوها غاية ظناً منهم أن هذه المتون تحتوي خلاصة ما في جميع تلك الكتب المبسوطات، وهذا الظن مع كونه يُجانب الحقيقة يتعارض تماماً مع ما صرَّح به مؤلفو تلك المختصرات من أن هذه المتون إنما هي بداية الطريق في طلب الفقه، وأول سُلَّم يتم منه الصعود إلى الفقه الحقيقي المقرون بأدلته والتعليل.

3ـ إن العلمانية المفروضة على العالم الإسلامي زادت الطين بلة، بحيث ساهمت بقوة في العزوف عن مواصلة السير في طلب الفقه والتوسُّع فيه، لأن الفقه الإسلامي صار مقطوعاً عن حياة المسلمين اليومية، فقد حلَّت القوانين الوضعية محله، فلم يكن للفقه الإسلامي حاجة إليه إلا في الأحوال الشخصية كالنكاح،  والطلاق، ومهور النساء وما يستتبع ذلك من النفقة، فأُصيب طلبةُ العلم الشرعي عموماً، والفقه الإسلامي خصوصاً بالإحباط إذ لا معنى من الاستزادة من علم تُرك العمل بقليله الذي بأيديهم إلا فيما يتعلق بالشعائر التعبدية كالصوم، والصلاة، والحج.

4ـ من الأسباب التي دعتني إلى شرح مختصر المزني حمل الطلبة على التحرر من ربقة التقليد الأعمى، فاختيار مختصر المزني من بين الكتب المؤلفة في المذهب مقصود لكونه يساعد طلبة العلم على تحقيق ذلك، والدليل ما صرَّح به المزني في بداية المختصر من أن هدفه من تأليف هذا المختصر هو تقريب علم الشافعي للناس لا لقصد التقيد به، وعلَّل ذلك بأن على المرء المسلم أن ينظر لنفسه فيما هو أصلح له في دينه، ويحتاط لدينه في الاجتهاد في المذاهب بتركِ التقليد بطلب الدلالة، ولم يكتف بهذا بل ذكَّر طلبة العلم بموقف شيخه الشافعي من التقليد ونهيه عنه بأوضح العبارات، فكتابه المختصر مليء بالأمثلة في ترك التقليد، فإنه ـ رحمه الله ـ  قد أكثر من إيراد أرائه في ثنايا الكتاب مخالفة لما قرره شيخه الشافعي في مسائل كثيرة لا تعد كثرة، ولم يجد حرجاً في مخالفة شيخه في بعض ما ذهب إليه.

لهذا وذاك عزمتُ بعد التردد على شرح مختصر المزني للطلبة الصوماليين باللغة الصومالية، وقصدي من ذلك أن يكون هذا المختصر إضافةً جديدةً إلى الكتب التي تُدرس في الحلقات العلمية عندنا في الصومال، وقد اهتم بمختصر المزني علماءُ المذهب مِن بعده، وعكفوا عليه تدريساً وتفريعاً، وشرحاً كما ستعرف ذلك عند الحديث عنه في ترجمة المزني.

5ـ ازداد الفقه المذهبي في الحلقات العلمية غُربة بعد تأسيس الجامعات الإسلامية الأهلية في الصومال، فانتقل طلبة العلم من الحلقات العلمية في المساجد إلى الجامعات الإسلامية ظناً منهم أن الجامعات تشتمل على جميع العلوم الشرعية التي كانت تُدرًّس في الحلقات العلمية، وتزيد عليها بإدخال أساليب عصرية في تدريسها، ولم يكن هذا الظن في محله إذ ليس في الجامعات الإسلامية إلا مقتطفات من هنا وهناك يتم تلخيصها في مذكرات جامعية لأجل مراجعتها عند الاختبارات، وينتهي دورها بانتهاء الاختبارات، ونحن لا ننكر دور الجامعات الإسلامية في رفع وعي الشباب المسلم في زمن التحديات ولكننا في الوقت نفسه نؤكد أن الجامعات الإسلامية لا تسد مسد الحلقات العلمية في المساجد، فمن يَدرُس الكتاب من الغلاف إلى الغلاف، ويكرره مرات بعد مرات  ليس كمن يأخذ منه مقتطفات في فصل من الفصول، ثم لا يعود إليه إلى الأبد.

ولا يعني هذا تفضيل طالب العلم في الحلقات العلمية في المساجد على طالب العلم في الجامعات مطلقا بل إن ذلك يتعلق بجزئية تتعلق بطريقة التحصيل العلمي، وإلا فهناك جوانب أخرى بفضلُ طالب العلم الشرعي في الجامعات على غيره في الحلقات العلمية في المساجد، فالطالب الجامعي بعلمه القليل يستطيع أن يتفاعل مع الجماهير، فيكتب مقالاً، أو يعد محاضرةً، ويلقي خاطرةً، أو يقيم دورةً شرعية في مختلف المجالات، في حين أن ذلك كله معدوم في طالب العلم في الحلقات في المساجد، فهو منقطع تماماً عن الجماهير، فليس عنده وسيلة لنشر ما عنده من العلوم إلا التدريس في الحلقات على طريقة شيخه، فلا هو قادر على كتابة مقال لا باللغة العربية التي تعلم بها الكتب،ولا إعداد محاضرة للجماهير فيما تمس إليه الحاجة وغير ذلك من وسائل التواصل مع الجماهير بمختلف توجهاتها، وطلاب العلم في حلقات المسجد هم في الحقيقة أوعية العلم ينهل منهم من جاء إليهم في مسجدهم، وينطبق عليهم قول النبي r في تقسيم طلاب العلم، فكان مما قال ( … فكان منها أجادب أمسكت المياه، فنفع الله بها الناس، فشربوا، وسقوا وزرعوا…).

والذي أريد الوصول إليه أن كلا من الصنفين لا يُغني عن الآخر، وخيرهما من جمع الطريقتين، وأخذ من الفريقين، وأنا حين أقول ذلك أقوله عن تجربة ومعرفة، لأني أخذت من المدرستين أوفر الحظ، فعلمت محاسن ومساوي ما عند كلم من الفريقين.   

ثالثا:

منهج المزني في المختصر

أولا: الاحتصار الذي عمله المزني ليس معناه هو الذي يتبادر إلى ذهن القارئ في العصور المتأخرة من أنه (أي الاختصار)  هو الاكتفاء ببعض المسائل دون بعض، وإنما معناه هو الإتيان بجميع مسائل الأصل، وهو الذي صرَّح به المزني في الجامع الكبير فيما نقله الماوردي في حاويه، بقوله: «وقد أفصح المزني بهذا في أول جامعه بقوله: «وليس اختصار المعاني هو ترك بعضها والإتيان ببعضها، ولكن الإتيان بالمعاني بألفاظ مختصرة». ولهذا فكتاب المزني وإن سماه مختصراً إلا أنه يشتمل على كل ما في كتب للشافعي إلا القليل الذي انفرد كل تلميذ منهم عن الآخر.

ثانيا: إن المزني لا يقتصر في مختصره على المتن المجرد من الدليل والتعليل كما هو شأن المختصرات عند المتأخرين بل إنه يذكر في مختصره الأدلة والتعليلات والترجيحات، غايةُ ما في الأمر أنه يقتصر على بعض الأدلة التي يراها  عمدة في الباب، فلا يذكر الأدلة كلها كما أنه لا يتركها كلها، فإن استدل الإمام الشافعي مثلا على المسألة بخمسة من الأدلة فإن المزني قد يذكر منها ثلاثة أو اثنين، وقُل مثل ذلك في البقية.

وفيما يتعلق بأسانيد الأحاديث فإنه في الغالب يحذفها مُفتتِحاً إياها بصيغة التمريض لكل الأحاديث، فيقول: ورُوي عن رسول الله r سواء كان الحديث صحيحاً، أو ضعيفاً، و فوق ذلك لا يتكلم المزني على الأسانيد تصحيحاً، ولا تضعيفاً بخلاف الإمام الشافعي فإنه يحرص كلَّ الحرص على بيان درجة ما يستدل به من الأحاديث، فإن صح بعض منها، فقد يسكت عن البقية إذا العمدة عنده على ما صح، والبقية يذكرها متابعة لا غير.

يشتمل مختصر المزني على أربعة أقسام من علوم الشافعي

        القسم الأول ـ وهو أكثر الأقسام الثلاثة ـ  ما سمعه المزني من الإمام الشافعي من لفظه كقوله في بداية كتاب المساقاة (مجموعة من إملاء ومسائل شتى سمعتها لفظا، ويدخل في هذا ما قرأه المزني على الإمام الشافعي، وأقره عليه، وهذه طريقة متبعة لدى السلف الصالح أن يقرأ الكتاب أحد التلاميذ بحضرة الشيخ، والشيخ يستمع إليه يصحح له إن أخطأ، وقد يصل هذا القسم إلى ـ تسعة أعشار من حجم الكتاب، وهو الذي يقول المزني عنه قال الشافعي كذا وكذا، ويدخل في هذا القسم ما فهمه المزني من كلام الشافعي وصاغه بأسلوبه مختصرا لكلام الشافعي.

القسم الثاني: ما وجده المزني من علم الشافعي بخطه وقد يكون كتابا بأكمله كثقول المزني كقول المزني في بداية كتاب إحياء الموات (من كتاب وضعه بخطه لا أعلمه سُمع منه) وكقوله في باب التقاط المنبوذ، ويوجد معه الشيء مما وضعه بخطه لا أعلمه سُمع منه).

والرواية بالوجادة مشهورة متبعة لدى السلف إن توفر لها شروطها ومن أهمها أن يكون خط الشيخ معروفا لدى الطالب يقينا بحيث لا يختلط عليه بغيره،

القسم الثالث: ما قات على المزني من كلام الشافعي لكن سمعه ممن سمعه من الشافعي كالربيع بن سليمان، وهو أقل الأقسام ـ وهو الذي يعبر عنه المزني بقوله قال أصحابنا عن الإمام الشافعي أو نقله أصحابنا عن الإمام الشافعي، وقد يصرح بأسمائهم ومن ا لأمثلة على ذلك، والدليل على وجود هذا النوع في المختصر أن المزني أورد في المختصر أقوال الإمام الشافعي في القديم وهو مذهبه الذي وضعه في العراق، ولم يكن المزني مع الإمام الشافعي كما أن الشافعي لم يحدث بها في مصر، فتعين أن يكون  المزني سمع بتلك الكتب ممن سمعها من الإمام الشافعي في العرقا.

القسم الرابع: ما يزيده رواة المختصر عن الإمام المزني وهما إبراهيم بن محمد بن إسحاق الأصبهاني المتوفى سنة (302 هـ) ومحمد بن عاصم أبو عبد الله الأصبهاني القاضي المتوفى سنة (299هـ) منفردين أو مجموعين.

ومن ذلك ـ وهما مجموعان ـ قولهما في صفة الصلاة(قال محمد بن عاصم وإبراهيم يقولان: سمعنا الربيع يقول: قال الشافعي: يقرأ خلف الإمام جهر أو لم يجهر بأم القرآن.

ومن زيادة إبراهيم منفردا قوله في كتاب الجنائز قال الراوي عنه قال حدثنا إبراهيم قال حدثنا الربيع عن الشافعي قال: القيام في الجنائز منسوخ).

ومن زيادة ابن عاصم منفردا قوله في كتاب البيع (قال أبو عبد الله محمد بن عاصم سمعت المزني، يقول: هذا غلط عندي، فلو كان الثمن محرما بالتدليس كان البيع بالثمن المحرم منتقضاً).

الأقوال المتعارضة للإمام الشافعي في المختصر وكيفية التعامل معها

قد أكثر الإمام المزني في مختصره من إيراد أقوال متعارضة للإمام الشافعي في المسألة الواحدة، وذلك دأب الإمام الشافعي في جميع كتبه، فقد يستغرب بعض طلبة العلم من صدور تلك الأقوال المتعارضة من إمام واحد، لأنه حسب فهمه لا ينبغي أن يكون للإمام الواحد أكثر من رأي في المسألة الواحدة، فيتوجب على من يشتغل بأحد كتبه أن يبين لطلبة العلم سبب ورود ذلك.

 وقبل ذلك نُعرِّف بالمراد بأقوال الشافعي، فنقول: هي تلك الأقوال المتعارضة الواردة في المسألة الواحدة، والتي يوردها الشافعي في موضوع واحد، أو مواضيع متفرقة من كتبه.

وقد استوقف ذلك كثيرا من طلبة العلم لمعرفة سبب ذلك لهذا تناولها كثير من أتباع الإمام الشافعي عبر العصور، وتفننوا في توجيهها، فمنهم المستكثر منها، ومنهم المقل، وقد بالغ بعضهم، فأدخلوا في توجيهها وجوها يُعلم بضرورة العقل أنها غير صالحة في تبرير ورود تلك الأقوال من الإمام، ومن بينها قولُ بعضِهم أن الإمام قصد من إيراد تلك الأقوال دون ترجيح ولا اختيار لأحدها تدريب المتعلمين عليها ليمتحنهم بذلك لمعرفة مدى قدرتهم على الترجيح.

        وهذا الأسلوب لا يصلح للكتب المؤلفة لعامة الناس، وفيهم من لا يصلح لذلك على الإطلاق، وإنما يلجأ إليه بعض الشيوخ لاختبار الطلبة أثناء الشرح عن طريق طرح أسئلة عليهم.

 فنقول ـ وبالله التوفيق: إن لذلك أسباباً كثيرة إذا عُرفت زال الاستغراب، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر.

السبب الأول: إن الإمام كغيره من الأئمة هو طالب علم مدة حياته، فقد يقف في أثناء ذلك من الأدلة ما لم يكن يعلم به سابقاً، و قد يكون فيما تقدم قد قرر خلاف ما دلت عليه تلك الأدلة، فبعد الوقوف على أي دليل يدل على خلاف ما ذهب إليه يتحتم عليه أن يتراجع عن رأيه الأول، وهذا كثير في حق العلماء، وفي الشافعي أكثر، فقد تراجع عن كثير من آرائه التي قررها في بغداد إلى ما قررها في مصر فيما عرف لا حقاً بالمذهب القديم والجديد.

وهذا التراجع ليس محصوراً في القديم والجديد بل في الجديد أيضاً، فهناك آراء كثيرة قررها في مصر، ثم تراجع عنها، وكل آرائه في مصر تُعَدُّ من مذهبه الجديد.

السبب الثاني: أن يذكر القولين في المسألة في موضع واحد، ويُرجِّح أحدَهما على الآخر في نفس ذلك الموضع، فهذا لا غبار فيه، بل هو معدود من مفاخره بحيث قام بحصر الأقوال الواردة في المسألة، ثم اختار منها ما يراه صوابا بالدليل أو التعليل.

السبب الثالث: أن يذكر القولين في المسألة الواحدة، ولا يرجح أحدهما على الآخر لخفاء وجه الترجيح لأحدهما عليه، والدليل على وجود هذا النوع أن الإمام الشافعي أحيانا يعقبهما بقوله (هذا مما أستخير الله فيه) وهذا يدل على ورعه وتحريه لأنه لا يريد أن ينقل عنه ما لم يكن متأكداً من  صحته امتثالاً بقول الله تعالى (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب).

السبب الرابع:  أن يذكر قولا في مسألة من المسائل، ثم يذكر تلك المسألة في موضع آخر أو كتاب آخر قولا يخالف فيه الأول، فينظر فإن عُرف المتقدم منهما من المتأخر اعتُبر ذلك رجوعاً من الإمام عن الحكم الأول في المسالة بسبب تغير اجتهاده فيها، فإن لم يُعرف المتقدم منهما عُرضت تلك المسألة على قواعد الإمام وأصوله فأيهما وافقها قدم على الآخر.

السبب الخامس: أن يذكر القولين في المسألة في مواضع متباينة من كتبه باعتبار حالين فيظن بعض من أتباعه أنهما قولان مختلفان، فيكثر الخلاف بين أتباعه في ذلك، فبعضهم يعدهما قولين مختلفين، والآخرون يجعلونهما قولاً واحداً باختلاف الحالين.

فهذه الأسباب الخمسة المذكورة تنبه على ما عداها من الأسباب، وتعطي صورة واضحة عن المبررات التي ألجأت الإمام الشافعي في إيرادها في المسألة الواحدة. زالله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

تعقبات المزني للإمام الشافعي في بعض ما ذهب إليه

 قد ضاق بعض أتباع الإمام الشافعي ممن قلدوه تقليدا أعمى ـ وما أكثرهم قديماً وحديثاً ـ من تعقبات المزني للإمام الشافعي في بعض ما ذهب إليه من الآراء، وقد عدوه ظلماً وعدواناً على الإمام الشافعي، وقد خفي على هؤلاء أن الحق أعظم من الرجال، وأن العلم من أجلِّ العبادات، وعليه فلا يصح بحال من الأحوال العمل بقول فلان إلا بعد معرفة صحته من حيث الدليل لأن العمل بكل ما قاله الإمام يفضي إلى عبادة الله بما يجزم أنه خطأ وليس لأحد بعد الأنبياء عصمة عن الخطأ، فلا يجد الإنسان مبررا يجيز له متابعة إمام من الأئمة على كل أقواله دون تمحيص الصواب من الخطأ. بل ولا يجوز السكوت عليه، فإن الله ـ تبارك وتعالى ـ قد أخذ على العلماء عهدا أن يبينوه للناس،

وكل من انتقد المزني في تعقباته ممن جاء بعده فالمزني أعرف منه واجل منهم قال تقي الدين السبكي (لا أحد من الأصحاب يعرف قدر الشافعي كما يعرفه المزني )) ولهذا فكل من جاء بعد المزني فهم عيال على كتبه لدليل أن كتب المذهب الشافعي تفرعت من هذا المختصر يعرف ذلك القاصي قبل الداني.

        ترجيحات المزني بين أقوال الإمام الشافعي

ثالثا: إن المزني تميز من بين الأتباع بالترجيح بين القولين للشافعي حيثما وُجِدا، وهذا لا يكاد يعزب عنه، وأضرب على ذلك بأمثلة تمر بنا في المختصر، وتتمثل ترجيحاته بين القولين في أمور كثيرة منها:

ا ـ يرجح المزني بين قولي الشافعي بقوة دليل أحدهما، ومن ذلك قول المزني في ترتيب الأغسال المشروعة فقال الشافعي: «وَأَوْلَى الْغُسْلِ أَنْ يَجِبَ عِنْدِي بَعْدَ غُسْلِ الْجَنَابَةِ الْغُسْلُ مِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ وَالْوُضُوءُ مِنْ مَسِّهِ مُفْضِيًا إِلَيْهِ، وَلَوْثَبَتَ الْحَدِيثُ بِذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ r قُلْتُ بِهِ، ثُمَّ غُسْلُ الْجُمُعَةِ، وَلَا نُرَخِّصُ فِي تَرْكِهِ، وَلَا نُوجِبُهُ إِيجَابًا لَا يُجْزِئُ غَيْرُهُ» فخالفه المزني بحيث غسل الجمعة على غسل من غسل الميت، فقال (أي الْمُزَنِيُّ) إِذَا لَمْ يَثْبُتْ فَقَدْ ثَبَتَ تَأْكِيدُ غُسْلِ الْجُمُعَةِ فَهُوَ أَوْلَى، وَأَجْمَعُوا أِنْ مَسَّ خِنْزِيرًا أَوْ مَسَّ مَيْتَةً أَنَّهُ لَا غُسْلَ، وَلَا وُضُوءَ عَلَيْهِ إِلَّا غُسْلَ مَا أَصَابَهُ فَكَيْفَ يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ فِي أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ. ( يعني غسل الميت)

 ب ـ قد يرجح أحد القولين على الآخر لموافقته أصول الشافعي وقواعده، ومن ذلك قول المزني قال الشافعي: فِي الْقَدِيمِ يَزِيدُ فِي أَذَانِ الصُّبْحِ التَّثْوِيبَ، (وَهُوَ الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ مَرَّتَيْنِ) وَرَوَاهُ عَنْ بِلَالٍ مُؤَذِّنِ النَّبِيِّ r وَعَنْ عَلِيٍّ t، وَكَرِهَهُ فِي الْجَدِيدِ لِأَنَّ أَبَا مَحْذُورَةَ لَمْ يَحْكِهِ عَنِ النَّبِيِّr. فقَالَ الْمُزَنِيُّ: وَقِيَاسُ قَوْلَيْهِ أَنَّ الزِّيَادَةَ أَوْلَى بِهِ فِي الْأَخْبَارِ كَمَا أَخَذَ فِي التَّشَهُّدِ بِالزِّيَادَة، وَفِي دُخُولِ النَّبِيِّ r الْبَيْتَ بِزِيَادَةِ أَنَّهُ صَلَى فِيهِ، وَتَرَكَ مَنْ قَالَ لَمْ يَفْعَلْ.

ج ـ قد يرجح أحد القولين على الآخر لموافقته قول جمهور العلماء، ومن ذلك قول المزني عقب قول الشافعي في المسح على الخفين (وَلَا يَمْسَحُ عَلَى جُرْمُوقَيْنِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ يَمْسَحُ عَلَيْهِمَا).( قَالَ الْمُزَنِيُّ: قُلْتُ أَنَا وَلَا أَعْلَمُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا ( أي جواز المسح على الجرموقين) ثم قال المزني: وَقَوْلُهُ مَعَهُمْ أَوْلَى بِهِ مِنِ انْفِرَادِهِ عَنْهُمْ، وَزَعَمَ إِنَّمَا أُرِيدُ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ الْمِرْفَقُ فَكَذَلِكَ الْجُرْمُوقَانِ مِرْفَقٌ وَهُوَ بِالْخُفِّ شَبِيةٌ، وَإِنْ نَزَعَ خُفَّيْهِ بَعْدَ مَسْحِهِمَا غَسَلَ قَدَمَيْهِ وَفِي الْقَدِيمِ وَكِتَابُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى يَتَوَضَّأُ.

د ـ  قد يرجح المزني أحد القولين على الآخر بما ظهر له من الأدلة والقياس والتعليل، ومن ذلك قول المزني بعد قول  الشافعي في حق من وضع لصوقا على موضع الجرح تيمم فإِذَا أُلْقِيَتِ الْجَبَائِرُ فَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَمْسَحُ عَلَيْهَا وَيُعِيدُ مَا صَلَّى إِذَا قَدَرَ عَلَى الْوُضُوءِ، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لَا يُعِيدُ، وَإِنْ صَحَّ حَدِيثُ عَلِيٍّ t أَنَّهُ انْكَسَرَ إِحْدَى زَنْدَيْهِ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ r أَنْ يَمْسَحَ عَلَى الْجَبَائِرِ، قُلْتُ بِهِ، وَهَذَا مِمَّا أَسْتَخِيرُ اللَّهَ فِيهِ» فقَالَ الْمُزَنِيُّ أَوْلَى قَوْلَيْهِ بِالْحَقِّ عِنْدِي أَنْ يُجْزِئَهُ وَلَا يُعِيدُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا عَجَزَ عَنْهُ الْمُصَلِّي وَفِيمَا رُخِّصَ لَهُ فِي تَرْكِهِ مِنْ طُهْرٍ وَغَيْرِهِ وَقَدْ أَجْمَعَتِ الْعُلَمَاءُ وَالشَّافِعِيُّ مَعَهُمْ أَنْ لَا تُعِيدَ الْمُسْتَحَاضَةُ الصلاةَ، وَالْحَدَثُ فِي صَلَاتِهَا دَائِمٌ، وَالنَجَسُ قَائِمٌ…

رابعا

 الإضافات التي يزيدها المزني على كلام الشافعي في المختصر متنوعة، وهي محصورة فيما يلي:

1ـ الزيادات التي يزيدها على كلام الشافعي لبيان معاني ما ذكره الشافعي لقصد التوضيح، وهذه الزيادة داخلة في صلب الكتاب لأنها بيان لمراد الشافعي زادها لئلا يُفهم عنه غير المقصود، ومن ذلك قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَإِذَا الْتَقَى الْخِتَانَان، وَالْتِقَاؤُهُمَا أَنْ تَغِيبَ الْحَشَفَةُ فِي الْفَرْجِ فَيَكُونُ خِتَانُهُ حِذَاءَ خِتَانِهَا فَذَاكَ الْتِقَاؤُهُمَا كَمَا يُقَالُ الْتَقَى الْفَارِسَانِ إِذَا تَحَاذَيَا وَإِنْ لَمْ يَتَضَامَّا فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ عَلَيْهِمَا فقال المزني مبينا المعنى الذي يقصده الإمام الشافعي فقال: (أي الْمُزَنِيُّ) الْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ أَنْ يُحَاذِيَ خِتَانُ الرَّجُلِ خِتَانَ الْمَرْأَةِ لَا أَنْ يُصِيبَ خِتَانُهُ خِتَانَهَا وَذَلِكَ أَنَّ خِتَانَ الْمَرْأَةِ مُسْتَعْلٍ وَيَدْخُلُ الذَّكَرُ أَسْفَلَ مِنْ خِتَانِ الْمَرْأَةِ، (قَالَ الْمُزَنِيُّ): وَسَمِعْتُ الْشَافِعِيَّ يَقُولُ: الْعَرَبُ تَقُولُ: إِذَا حَاذَى الْفَارِسُ الْفَارِسَ الْتَقَى الْفَارِسَانِ انتهى وهذا توضيح لكلام الشافعي فقط.

2 ـ الزيادات التي يزيدها المزني في صلب الكتاب على كلام الشافعي وليس داخلة فيما نص عليه الشافعي، وإنما زادها المزني باعتبار أنها على أصول الشافعي وقواعده، فهذا النوع من الزيادة معدود من مذهب الشافعي قولا واحداً، وقد ذكرنا في ترجمته قول إمام الحرمين: «… فإذا خرَّج (أي المزني) للشافعي قولاً، فتخريجه أولى من تخريج غيره، وهو يلتحق بالمذهب لا محالة»([12]) وقال في موضع آخر. « فإن كان لتخريج مخرِّج التحاق بالمذهب، فأولاها تخريجُ المزني لعلو منصبه في الفقه، وتلقيه أصول الشافعي من فلق فيه»([13]).

3 ـ من الزيادات التي يزيدها المزني في المختصر ما يتفرد بها عن بقية الأتباع، ولا ينسبها للشافعي ولا لغيره، فهذه ليست من المذهب قولا واحداً بل هي مذهب للإمام المزني لأنه مجتهد وفي ذلك قال إمام الحرمين الجويني: «إذا انفر المزني برأي فهو صاحب مذهب، فإذا خرَّج للشافعي قولاً، فتخريجه أولى من تخريج غيره، وهو يلتحق بالمذهب لا محالة»([14]) وقد علق النووي على قول الجويني، فقال: «وهذا الذي قاله الإمام حسن، لا شك أنه متعين»([15]).

ومما يدخل في هذا النوع من الزيادات ما يذكره المزني من الأحكام مخالفاً فيها شيخه، فيقرر غير ما قرره الإمام الشافعي، فتعتبر هذه المخالفة مذهبا له بل هي أوضح في الصورة من التي قبلها.

 ومن ذلك قول المزني في باب الاستطابة في الرد على إمامه في قوله إن الوضوء لا ينتقض إذا كان ممكنا مقعدته من الأرض فقال المزني: « فَلَمَّا جَعَلَهُنَّ النَّبِيُّ r بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي فِي مَعْنَى الْحَدَثِ وَاحِدًا اسْتَوَى الْحَدَثُ فِي جَمِيعِهِنَّ مُضْطَجِعًا كانَ أَوْ قَاعِدًا وَلَوِ اخْتَلَفَ حَدَثُ النَّوْمِ لِاخْتِلَافِ حَالِ النَّائِمِ لَاخْتَلَفَ كَذَلِكَ حَدَثُ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ وَلَأَبَانَهُ كَمَا أَبَان r أَنَّ الْأَكْلَ فِي الصَّوْمِ عَامِدًا مُفْطِرٌ أَوْ نَاسِيًا غَيْرُ مُفْطِرٍ».

خامسا

 ترجمة الإمام المزني باختصار

بمناسبة شرح مختصر الإمام المزني للطلبة الصوماليين باللغة الصومالية رأيت أن أقدم بين يدي ذلك ترجمة موجزة عن مؤلف الكتاب لإعطاء صورة عنه أداء لبعض حقوقه علينا طالما استفدنا من علمه، فقد تحمَّل المتاعب والمشاق في تأليف هذا المختصر، فقد مكث في تأليفه وتهذيبه وتحقيقه قرابة عشرين عاماً كلما انتهى منه أعاد النظر فيه من جديد حتى خرج المختصر على هذا الحال الذي عليه اليوم، وقد قل نظيره في المذهب، لهذا صار مرجعاً لكل الدارسين لمذهب الإمام الشافعي، ومن هذا المختصر تفرعت كتب المذهب، فجزاه الله عنا وعن المسلمين خيراً فيما قدَّم، وجعل ذلك في ميزان حسناته إنه نعم المولى، ونعم النصير.

اسمه ونسبه وكنيته ونسبته

هو إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل بن عمرو بن إسحاق بن مسلم أبوإبراهيم المزنني تلميذ الإمام الشافعي([16])

ولادته:

وُلد الإمام المزني في مصر سنة خمس وسبعين ومائة في العام الذي تُوفي فيه الإمام المحدث: الليث بن سعد المصري.

        شيوخه في العلم وتلاميذه

روى عن الإمام الشافعي، ونعيم بن حماد، وعلي بن معبد بن شداد وغيرهم، وروى عنه أبو بكر بن خزيمة، وأبو القاسم عثمان بن سعيد بن بشار الأنماطي، شيخ ابن سريج، وزكريا بن يحيى الساجي، وأبو بكر بن زياد النيسابوري وابن جوصا، والطحاوي، وابن أبي حاتم، وأبو الفوارس ابن الصابوني وآخرون.

 كثير الملازمة للإمام الشافعي طيلة بقائه في مصر

يكفي المزني فضلاً وشرفاً أنه تفقه وتخرَّج على يد الإمام الشافعي حتى صار مرجعاً في علمه بعد وفاته، وقد تفرَّس فيه الإمام الشافعي تقدمه على غيره في معرفة مذهبه ونشره بين الناس، فقال فيه: (إنك ناصر مذهبي)([17]).

قال الإمام الشافعي فيه: «لتدركن زمانا تكون أقيس أهل ذلك الزمان»([18]). وقد عده السبكي في الطبقة الأولى من الذين جالسوه ولازموه([19]).

قال الأنماطي أحد تلاميذ المزني: «وكان كثير العبادة لزوما للسنة من أعرف الناس بإرادة الشافعي وفياً بحيث يُقدَّم نقلُه عنه على كل نقلٍ، وذلك لعدالته، وتحقيقه لمذهبه، وعنه وبه انتشر مذهبه انتشاراً كاملاً»([20]).

قال البيهقي: «وحين وقع للبويطي ([21]) ما وقع كان القائم بالتدريس والتفقيه على مذهب الإمام الشافعي أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني»([22]).

وقال بن العماد: «ولم يتقدم عليه أحد من أصحاب الشافعي، وهو الذي تولى غسله يوم مات، قيل: وعاونه الربيع »([23]).

مكانته العلمية وثناء العلماء عليه واحتهاده في العبادة

 قال أحمد بن صالح (وهو المصري تلميذ سفيان بن عيينة): «لو حلف رجل أنه لم ير كالمزني لكان صادقاً»([24]).

وقال أبو إسحاق الشيرازي: «كان زاهداً، عالماً، مجتهداً، مناظراً، محجاجاً، غواصاً على المعاني الدقيقة» ([25]).

وقال عمرو بن عقمان المكي: «ما رأيت أحداً من المتعبدين في كثرة مَن لقيت منهم أشدَّ اجتهاداً من المزني، ولا أدوم على العبادة منه، وما رأيت أحداً أشد تعظيماً للعلم وأهله منه، وكان من أشد الناس تضييقاً على نفسه في الورع، وأوسعه في ذلك على الناس»([26]).

قال ابن أبي حاتم: «سمعت المزني، وهو صدوق»([27]) وقال أبو سعيد بن يونس بن عبد الأعلى: ثقة([28]).

قا ل ابن عبد البر: كان فقيها، عالما، راجحَ المعرفة، جليل القدر في النظر، عارفاً بوجوه الكلام والجدل، حسن البيان، مقدَّماً في مذهب الشافعي، وقوله وحفظه وإتقانه، وله على مذهب الشافعي كتبٌ كثيرةٌ لم يلحقه أحد فيها، ولقد أتعب الناس بعده، وكان أعلم أصحاب الشافعي بالنظر دقيق الفهم والقطنة انتشرت كتبه، ومختصراته إلى أقطار الأرض شرقاً وغرباً، وكان تقياً، ورعا، ديناً، صبوراً على الإقلال والتقشف»([29]).

وقال الذهبي: «وبلغنا أن المزني ـ رحمه الله ـ كان مجاب الدعوة ذا زهدٍ، وتألُّهٍ، أخذ عنه خلقٌ من العلماء، وبه انتشر مذهب الإمام الشافعي في الآفاق»([30])

مصنفاته:

قال أبوأسحاق الشيرازي: صنَّف كتباً كثيرة: الجامع الكبير، والجامع الصغير، والمختصر، والمنثور، والمسائل المعتبرة، والترغيب في العلم، وكتاب الوثائق، وكتاب العقارب وكتاب نهاية الاختصار، وشرح السنة([31]). ومنها كذلك كتاب أحكام القرآن وإفساد التقليد.

مكانة هذا المختصر من بين المصنفات في كتب الشافعية

وكان المزني قد أعطى هذا المختصر عناية فائقة في تحقيقه وتهذيبه، ومكث في تأليفه قرابة عشرين عاما كلما انتهى منه أعاد النظر فيه من جديد حتى خرج على هذا الحال الذي عليه اليوم، قال ابن خزيمة صاحب الصحيح سمعت المزني يقول: «كنت في تأليف هذا الكتاب عشرين سنة، وألفته ثمان مرات، وغيرته وكنت كلما أردت تأليفه أصوم قبله ثلاثة أيام، وأصلي كذا وكذا»([32]).

قال بهاء الدين الكندي: «قال وكان هذا المختصر أول مصنف صنف في مذهب الشافعي »([33]).

وقال البيهقي: « ولا نعلم كتاباً، صُنف في الإسلام أعظمُ نفعاً، وأعم بركةً، وأكثر ثمرةً من مختصره»([34]).

وحكى القاضي حسين عن الشيخ الصالح الإمام أبي زيد المروزي ـ رحمه الله ـ قال: من تتبع المختصر حق تتبعه لا يخفى عليه شيء من مسائل الفقه، فإنه ما من مسألة من الأصول والفروع إلا وقد ذكرناها تصريحا أوإشارة»([35]).

        الشروح التي وضعت على مختصر المزني

لأهمية هذا المختصر تناوله خلائق من علماء المذهب، وتواردوا عليه، الواحد تلو الآخر جيلاً بعد جيل حتى صار معلماً من بين كتب المذهب، وقد وضع عليه من الشروح ما لا يدخل تحت الحصر، وقد وقفت على أسماء مجموعة من الشروح.

 ومنهم على سبيل المثال: أبو الطيب الطبري، وأبو الفتوح الشافعي، وأبو إسحاق المروزي، وأبو حامد المروزي، وأبوسراقة الشافعي وأبو عبد الله المسعودي، وأبو علي الطبري وأبو بكر الشاشي، وأبو علي السنجي، ويحيى بن محمد الحدادي المناوي، وابن عدلان الكناني، وأبوحسن الماوردي (الحاوي الكبير) والجويني في نهاية المطلب وغيرهم، ولا وجود لكل تلك الشروح غير كتابين الأخبرين، وهما الحاوي للماوردي ونهاية المطلب للجويني

تخريجات المزني في المختصر

والحديث عن تخريجات المزني في هذا المختصر هي أهم ما في هذه الترجمة

فالمزني خصَّص هذا المختصر في علم الإمام الشافعي من أجل تقريبه للناس كما بين ذلك في المقدمة بقوله: (لأقربه على من أراده مع إعلاميه نهيه عن تقليده وتقليد غيره…) فإذن هذا المختصر في الأصل موضوعٌ في تقريب علم الإمام الشافعي للناس، والمزني جدير بذلك لأنه من أعرف الناس بكلام الشافعي ـ رحمه الله ـ فكلامه مرجع في علم الشافعي إذا اختلف الناس فيه.

قال إمام الحرمين: «… فإن كان لتخريج مخرِّج التحاق بالمذهب، فأولاها تخريجُ المزني لعلو منصبه في الفقه، وتلقيه أصول الشافعي من فلق فيه»([36]).

إلا أن المزني لكونه إماماً مجتهداً، لم يقتصر في هذا المختصر على مجرد النقل عن الشافعي بل أضاف إليه اجتهاداته واختياراته الخاصة به، وقد يخالف في بعضها الإمامَ الشافعي صراحةً، وحرصاً منه يميز اجتهاداته تلك عن كلام الإمام الشافعي بتعبير واضح لا احتمال فيه كقوله: قلت: وهذا كثير الوقوع في المختصر، وستمر بك أثناء الدراسة.

وقد اختلف العلماء في اختياراته تلك هل هي من المذهب أم لا

 فالإضافات التي زادها المزني من عنده نوعان: منها:

النوع الأول: ما يزيده المزني على كلام الشافعي من الإضافات على وفق أصوله وقواعده، فهذا النوع من الإضافات معدودة من المذهب، فالمذهب الشافعي عبارة عن منصوص عليه من قبل الإمام الشافعي ومستنبط من أصوله وقواعده، فكلاهما من المذهب مع التفاوت فيما بينهما في قوة نسبتهما للمذهب قال ابن الصلاح: «تخريجه تارة يكون من نص معين لإمامه في مسألة معينة، وتارة لا يجد لإمامه نصاً معيناَ يُخرِّج منه، فيُخرِّج على وفق أصوله بأن يجد دليلاً من جنس ما يحتج به إمامُه وعلى شرطه، فيفتي بموجبه»([37]).

النوع الثاني: اختياراته الخاصة بالمزني، والتي يعبر بها عن رأيه في مسألة من المسائل غير متقيد بمذهب الإمام الشافعي، وقد يصرح فيها أحيانا بمخالفته للإمام الشافعي، فهذا النوع من الاختيارات لا يعد من المذهب قطعاً بل إن ذلك مذهب خاص بالمزني، فإنه إمام مجتهد، له آراؤه في مسائل كثيرة من أبواب الفقه قال إمام الحرمين الجويني: «إذا انفر المزني برأي فهو صاحب مذهب، فإذا خرَّج للشافعي قولاً، فتخريجه أولى من تخريج غيره، وهو يلتحق بالمذهب لا محالة»([38]).

وقد علق النووي على قول الجويني، فقال: «وهذا الذي قاله الإمام حسن، لا شك أنه متعين »([39]).

وقد جمع النووي النوعين بقوله: « فالحاصل أن من ليس أهلا للتخريج يتعين عليه العمل والإفتاء بالجديد من غير استثناء، ومن هو أهل للتخريج والاجتهاد في المذهب يلزمه اتباع ما اقتضاه الدليل في العمل والفتيا مبينا في فتواه أن هذا رأيه، وأن مذهب الشافعي كذا، وهو ما نص عليه في الجديد»([40]).

وتابعهما على ذلك التفصيل تاج الدين السبكي، فقال:«ينبغي أن يكون الفيصل في المزني أن تخريجاته معدودة من المذهب لأنها على قاعدة الإمام الأعظم، وأما اختياراته الخارجة فلا وجه لعدها من المذهب ألبتة، وأما إذا أطلق فذلك موضوع النظر والاحتمال.([41]).

 المزني كما يتفرد عن المذهب بآرائه واختياراته كذلك قد يرد على إمامه فيما ذهب إليه، وقد يكون من بين تلك الردود عبارة فيها نوع من القسوة ومن ذلك قول المزني في المختصر عقب قول الشافعي في باب وقت الصلاة (إن أدرك الإحرام في وقت الآخرة صلاهما جميعا) فقال المزني: ليس هذا عندي بشيء.

والاختيارات ليس خاصة بالمزني، بل له ولكل المنتسبين للمذهب الشافعي الذين بلغوا مرتبة الاجتهاد كأبي ثور وابن المنذر وابن خزيمة وغيرهم فإنهم لا يتقيدون بالمذهب، فكلامهم ينزل على التفصيل الذي ذكره إمام الحرمين عن المزني، وإن كان التابع لم يبلغ مرتبة الاجتهاد فليس له أن يخرج على المذهب تخريجا خارجا عن المذهب.

وفاة المزني

توفي الإمام المزني بمصر، ودفن يوم الخميس آخر شهر ربيع الأول سنة أربع وستين ومائتين ([42]) وله من العمر تسع وثمانون سنة. وقد ذكروا أنه دفن بالقرب من قبر الإمام الشافعي في المقبرة الواقعة في سفح المقطم.

([1]) هذه العقيدة مشهورة عن الإمام المزني نقلها عنه بالسند غير واحد من أهل العلم قديما وحديثا، وقد ساقها كلها ابن القيم في كتابه اجتماع الجيوش الإسلامية (ص: 95).

([2]) هذا المتن الموضوع بين يديك مقابل نسخ محققة منها النسخة التي حققها جمال عزون.

([3] ) في بعض النسخ  بعد قوله على عرشه (في مجده بذاته).

([4]) روى الحاكم من حديث أبي هريرة مرفوعا وموقوفا ( يوم القيامة كقدر ما بين الظهر والعصر) قال االحاكم صحيح الإسناد على  شرط الشيخين ووافقه الذهبي وقال الألباني: وأرى أن الموقوف في حكم المرفوع لكن سويد بن نصر وإن كان ثقة ليس على شرط الشخين.

([5]) يشير إلى قوله تعالى ( كما بدأكم تعودون . فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة)

([6]) يشير إلى قوله تعالى ( في الحميم ثم في النار يسجرون). سورة غافر

([7]) أي بدعته وفي نسخة عدته أي عدة الحرب بالعين أداته البدعية وسلاحه المحدث

([8] ) في بعض النسخ (إذا نزل)

([9]) المجموع شرح المهذب (1/ 4)

([10] ) إِنَّمَا اخْتَصَرَهُ لِأَنَّ الْمُخْتَصَرَ أَقْرَبُ إِلَى الْحِفْظِ ، وَأَبْسَطُ لِلْقَارِئِ ، وَأَحْسَنُ مَوْقِعًا فِي النُّفُوسِ قاله الماوردي

([11] ) وَهَلَّا بَسَطَهُ فَإِنَّ الْمَبْسُوطَ أَقْرَبُ إِلَى الْأَفْهَامِ، وَأَغْنَى عَنِ الشَّرْحِ. قاله الماردي.

([12]) نهاية المطلب في دراية المذهب(1/ 122).

([13]) نهاية المطلب في دراية المذهب (13/ 480).

([14]) نهاية المطلب في دراية المذهب(1/ 122).

([15])المجموع للنووي (1/ 72).

([16]) المزني نسبة إلى قبيلة من العرب تسمى مزينة بضم الميم جمع كثير، وهي في الأصل اسم لامرأة تسمى مزينة بنت كلب بن وبرة، فنسبت القبيلة المشهورة إليها.

([17])المجموع شرح المهذب (1/ 107).

([18]) مناقب الإمام الشافعي للبيهقي ( 2/ 136).

([19]) طبقات الشافعية الكرى ( 1/ 186).

([20] ) السلوك في طبقات العلماء والملوك (1/ 221).

([21]) حيث امتحن في مسألة خلق القرآن، فاخذا من مصر إلى بغداد، فبقي في السجن حتى توفي وهو مقيد بالأغلال.

([22]) مناقب الإمام الشافعي( 2/ 294).

([23])شذرات الذهب (2/ 147)

([24])المجموع شرح المهذب (1/ 108).

([25])طبقات الشافعية الكبرى (2/ 94).

([26]) سير أعلام النبلاء (12/ 494) وطبقات الشافعية الكبرى (2/ 94).

([27]) الجرح والتعديل (2/ 204)

([28])سير أعلام النبلاء (12/ 495).

([29] ) الانتقاء في فضائل الثلاثة لابن عبد البر ( (110).

([30]) سير أعلام النبلاء (12/ 494).

([31]) انظر في سير أعلام النبلاء (12/ 493) طبقات الشافعية الكبرى (2/ 94).

([32])المجموع للنوي (1/ 108).

([33])السلوك في طبقات العلماء والملوك ( 1/ 221).

([34]) المجموع شرح المهذب (1/ 107).

([35]) المصدر السابق

([36]) نهاية المطلب في دراية المذهب (13/ 480).

([37]) فتاوى ابن الصلاح (1/34/ 35).

([38]) نهاية المطلب في دراية المذهب(1/ 122).

([39])المجموع للنووي (1/ 72).

([40]) المجموع شرح المهذب (1/ 68).

([41]) طبقات الشافعية الكبرى (2/ 103).

([42] ) المجموع شرح المهذب (1/ 108).

 

للتحميل اضغط هنا